ربائب الملائكة
ردًا على مقال جنية تتزوج ابن رُشْد المنشور في جريدة الأهرام بتاريخ 2/4/2019
جدل قديم جديد طرفاه فلاسفة أو مشتغلون بها ، وفرق كبير بين من يشتغل بالفلسفة وبين من تشغله الفلسفة ، فالأول : موظف يعمل في الحقل الأكاديمي ، والثاني : قد يكون أكاديميًا أو لا . ولكن الفلسفة وقضاياها لا تفارق عقله ولا تفكيره ، حتى أضحت العلاقة بين المفكر والفلسفة علاقة ملازمة أو مصاحبة .
وبعد ، فلم يكن ابن رُشْد عربيًا ولا علمانيًا ، بل كان حنيفًا مسلمًا فيلسوفًا وفقهيًا مالكيًا ، صدع في كتاباته المتعددة من عقل إسلامي ، تربَّى على يد ربائب الملائكة لا أولاد الجنية .
لا أدري كيف دخل سلمان رشدي بين سطور هذا المقال وروايته ورؤيته لابن رُشْد ، هذا الفيلسوف المختطف ، وقد آن لمفكري الإسلام أن يردوه . وهو كذلك كان من قبل في محراب الإسلام ، سال قلمه الفياض ليكتب : ( بداية المجتهد ونهاية المقتصد ) ، وليكتب : ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال ) الذي ظنه البعض دعوة إلى العلمانية وإلى التنوير الأجنبي ، مع أنه كان تنويرًا إسلاميًا .
فابن رُشْد ربيب الفقهاء والقضاة وربيب الملائكة ، فالذين ربَّتهم الملائكة وعلى رأسهم جبريل منذ فجر الأديان إلى عصرنا هذا ، أولادهم لو كثروا وخرجوا من محاربهم الأكاديمية سيملأون الدنيا نورًا ، ويحارب هذا النور كل ألوان التطرف ، بما فيه التطرف الفلسفي الذي يريد أن يختطف ابن رُشْد من ساحة الفلسفة الإسلامية إلى الفلسفة العربية. ومنذ هذه اللحظة سنرى هل هي فلسفة إسلامية أم عربية ؟ وإذا كانت إسلامية فلا يمكن أن تكون علمانية ، ولا يمكن أن يكون تنويرها تنويرًا غربيًا ولا عربيًا ، ولكن تنويرها سيكون تنويرًا إسلاميًا خالصًا بهذا العقل الذي تربَّى على يد الملائكة وأرباب الملائكة .
واستدعاء صاحب رواية : ( الآيات الشيطانية ) يعبر عن غاية مقصودة ، ونحن في وقت نريد أن نجتمع فيه على كلمة واحدة لمحاربة الإرهاب والتطرف الفكري . نعم ، الإرهاب بكل أشكاله وألوانه ، والتطرف بكل مناهجه وغاياته .
إن العالم الإسلامي لا يعاني من أي مأزق ، بل العالم الإسلامي يعاني من أفراده الذين أصبحوا كغُثاء السَّيْل ، وأصبح العقلاء والمفكرون فيه هم الذين يعانون من كثرة الأصوات والأفكار المتداخلة .
إن الفلسفة الإسلامية لم تنتج ابن رُشْد وحده ، بل انجبت الكثير والكثير على مر العصور منذ الكِنْدِي حتى وقتنا الحاضر مرورًا بابن رُشْد . يكفينا أن نضرب نموذجًا بفخر الدين الرازي الذي كتب في شتى الأفكار الإسلامية والفلسفية ، يكفي ما كتبه في تفسيره (مفاتيح الغيب) ، وفي كتبه والتي منها : ( المطالب العالية ) ، ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من العلماء والحكماء والمتكلمين . وتلامذة الفخر لهم أن يكتبوا المُحَصِّل ، وينطلقوا منه ليشمل أفكار المعاصرين من العلماء والحكماء والمتكلمين ، لا باجترار التراث فحسب ، ولكن بدراسته دراسةً عميقةً والانطلاق منه ، وتوظيف هذا التراث الفكري العظيم في وقتنا الحاضر والذي يعبر عن رؤية واسعة للفلسفة الإسلامية ؛ لكي نقول : إن أعلام الفلسفة الإسلامية لن يموتوا ولن تمت فلسفتهم ، طالما هناك من يتصدى معنا لهذا التطرف الذي ينتشر حولنا ، حيث صدرت عن الهيئة العامة للأوقاف والشؤون الإسلامية بدولة ليبيا رسالة موجزة (في بيان براءة الإمام مالك وأصحابه وكبار أتباعه من مذهب الأشاعرة ).
فهذا الإرهاب الفكري الذي يقف على حدودنا ، وقد أظهر عن سوء طَوِيَّتِه من خلال هذا البيان الذي ينبغي أن يدق جرس الخطر ليحرك هممنا ، ونوحد الصف لمحاربة هذا التطرف ، كُلٌّ بسلاحه العقلي والفكري والعلمي والاقتصادي ، فالاقتصاد عصب الحياة ؛ من أجل أن نحمي دولتنا من العدو الخارجي والعدو الداخلي . فالعدو الداخلي أو الذي يريد أن يخترق أمننا الفكري والوطني يحتاج إلى قوة بيان وفصاحة لسان وحجة عقل تلفها حجة الوحي الذي نزل به جبريل على جميع الأنبياء والمرسلين ، لأن الجِنّ وإن كان فيهم الصالح إلا أن الطالح أكثر ، ونزغات الشياطين من شياطين الأنس والجِنّ أعظم ضررًا وأسوأ خطرًا ، لكنها تقف عند حدودها إذا قمعتها حجج ربائب الملائكة الذين تربوا على الفلسفة الإسلامية تربية حقيقية من خلال الفلسفة التوفيقية من جهة ، والفلسفة الإسلامية العقلية من جهة أخرى ، وصاحب كتاب (التهافت ) كان دقيقًا في اختياره لعنوان كتابه ، وسمحت الحرية العقلية للفلسفة الإسلامية لابن رُشْد أن يكتب كتابه : ( تهافت التهافت ) . والكتابان يدرسهما معا أبناء الأزهر ، ولكننا نَكُف عن الرد أحيانًا ؛ لأننا لا نحُبِ أن ندخل في معركة كلامية ، لكن إذا فرضت علينا الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الأشعري أن نرد، وجب علينا الرد.
وهنا أطلب من ربائب الملائكة أن يقوموا بدورهم، فالإسلام لا يعرف الكهنوت ، ولكنه يعرف الرجال بأقدارهم وعقولهم وأقلامهم التي تُعَبِّر عن أفكارهم الوسطية المعتدلة ، وهي تمسك بأطراف العلم والفلسفة والكلام كما عَبَّر الرازي ، حتى نتصدى لهذا التطرف ونحمي وطننا وبلادنا الجغرافية والفكرية .
وهذا المقال أساس لانطلاقة تحفز ربائب الملائكة ليقفوا في مواجهة أولاد الجنية ، لا على طريقة ألف ليلة وليلة وما تضمنته من حكايات ربما كانت إلى الإباحية والخرافة أقرب منها إلى العقل والعلم . فربائب الملائكة هم الذين يعرفون القِيَم العليا ؛ لأنها نزلت من العالم الميتافيزيقي. نعم العالم الميتافيزيقي الذي يضم أعلام في عالم الميتافيزيقا حتى نستطيع أن نجمع بين الدين الخالص وبين العقل المنضبط؛ لتمضي الفلسفة الإسلامية المعاصرة كما ذكرها المفكر المغربي طه عبد الرحمن في مشروعه وكتبه ومنها : (فقه الفلسفة – التكوثر العقلي – روح الدين – بؤس الدهرانية – العمل الديني وتجديد العقل…). فمشروع الفلسفة الإسلامية الجديد هو الذي يملك تجديد الخطاب الديني تجديدًا يحافظ على الأصول ، من خلال علماء يجمعون بين العقل والنقل ، وبين أصول شريعتنا السمحة ، ومقاصدها التي قام عليها في القديم والحديث علماء ربانيون . فليفتح الأُفُق من أجل أن ينطلق ربائب الملائكة لتحقيق الهدف المنشود.