ندوة الحج الكبرى (١٤٤٠)(سبحات فى بحار النور محبة وشوقا إليك يا سيدى يا رسول الله )
اد/محمد عبد الرحيم البيومى عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر
لعل من لحظات العمر التى لا تنسي فى رحلتى مع ندوة الحج الكبرى هذا العام عندما أبلغت بشريف الذهاب إلى مدينة المصطفى عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام ،ويالها من لحظات تكشف فيها بين الأحبة الأستار وتتزاحم الأسرار ويسعد القلب بمشرق الأنوار .إنها يثرب هكذا كان اسمها قبل هجرة النور ، فلما هاجر إليها الحبيب صلى الله عليه وسلم تسمت بالمدينة حيث نقلها بساطع شرعه إلى سفح الحضارة ،فلما سطع منها النور على المشارق والمغارب أصبحت هى المدينة المنورة.ولما تجلى النور منها على النفوس والأرواح ناب اللسان عن الجنان فخط بدماء محب صرعه الشوق أن سيدي يا رسول الله،تاقت نفسي إليك فاهتز كيانى،وما خبت نيران الشوق إليك سيدى فالأحبة فى الفؤاد محلهم لكن عينى تشتهى أن تنظرا. فوحقك وعظيم قدرك أجد الحروف على شفتي حيرى، فلا أجد ما يليق بمقامكم من جميل الكلمات، فوالله فحوى الكلام على فمي خجلى، ولولا الحب لم أتكلم.
يا معدن الطهر حسبي أنني أحد الشداة الهائمين الحومِ. سيدي يا رسول الله، بلغني أن أحد صحابتك رضوان الله عليهم قد قصدك ذات يوم قائلاً: يا رسول الله متى الساعة ؟ فقلت له: وماذا أعددت لها ؟ فقال الصحابي: والله ما أعددت لها من كثير صيام ولا صلاة، ولكني أحب الله ورسوله. فأجابه صلوات الله وسلامه قائلاً: أنت مع من أحببت. ولا أعدوا سوى أنني مخلوق ضعيف يشتكي القلة في الزاد والقصور في العمل، بيد أن ما يثقل عملي عند الله تعالى هو محبتي لله ورسوله. فأرجو أن أكون في الآخرة مع من أحببت. سيدي يا رسول الله بلغني أنك قلت في صحيح حديثك الشريف ((إذا كان يوم القيامة جيء بالدنيا، فيمر منها ما كان لله، وما كان لغير الله رُمى به في نار جهنم)). وبلغني كذلك أنك قلت «إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد: من كان أشرك في عمله لله أحداً، فليطلب ثوابه من عنده فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك».
عرفت من هديك قيمة الإخلاص، ومنزلة البواعث التي تسوق الناس إلى الأعمال، وأبصرت من خلفها القريب الذي يكشف عن مكنونه العمل، وأدركت منها الخفي الذي يغوص في أعماق النفوس، وأيقنت أن قيمة العمل عند الله تعالى مرجعه إلى طيب النفس، وحسن المقصد، وابتغاء وجه من عنت الوجوه لأمره وحكمته. ومن ثم فإن تفاوت الأجر على العمل سره الإخلاص فيه. فعرفت بذلك معنى قولك صلوات الله وسلامه عليك «أخلص دينك يكفك العمل القليل» وعلمت أن من علامات الساعة أن يفترق الناس فرقاً، منهم من يعبد الله تعالى خالصاً، وفرقة يعبدون الله تعالى رياء، وفرقة يعبدون الله تعالى ليستأكلوا به الناس، فإذا جمعهم الله تعالى يوم القيامة قال سبحانه للذي يستأكل الناس: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي ؟ فيقول: وعزتك وجلالك أستأكل بها الناس.
قال سبحانه: لم ينفعك ما جمعت، انطلقوا به إلى النار.
ثم يقول للذي يعبد رياء: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي ؟ قال بعزتك وجلالك رياء الناس. قال سبحانه: لم يصعد إلى منه شيء، انطلقوا به إلى النار. ثم يقول سبحانه للذى كان يعبده خالصاً: بعزتي وجلالي ما أردت بعبادتي؟ قال : بعزتك وجلالك أنت أعلم بذلك، ما أردت به إلا ذكرك ووجهك.
فيقول سبحانه: صدق عبدي، انطلقوا به إلى الجنة.
سيدي يا رسول الله قرأت في صحيح حديثك أن أحد أصحابك رضوان الله عليهم سألك، أي الناس أفضل ؟ فقلت صلوات الله عليك وتسليماته: كل مخموم القلب صدوق اللسان. قيل صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب ؟ فقلت صلوات الله وسلامه عليك: هو التقي النقي، لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد. فتعلمت من ذلك أن قيمة الإنسان تكمن في قلب نقي يغلفه الصفاء، وأنه ليس أفضل للمرء، ولا أقر لعينه من أن يعيش بقلب سليم مع الله تعالى ومع الناس ، يستشعر فضل الله تعالى عليه، وفقر العباد إلى نعمته، فيلهج لسانه بقوله «اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمد ولك الشكر»
وعلمت كذلك أن سوء الطوية، وفساد القلوب يفسد الأعمال ويطمس ما بها من بهجة، ويعكر ما يقترن بها من صفاء.
سيدي يا رسول الله قرأت في صحيح حديثك الشريف «لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم». فآمنت أنك صلوات الله وسلامه عليك تريد بناء الشخصية وتقويم الرجال، وأيقنت أنه إذا تغلغل الإيمان في القلوب فإنه يضفي على صاحبه قوة تنعكس آثارها على الفعل والسلوك فيبدو صاحبه واثقاً في قوله، واضحاً في هدفه، راسخاً في عمله مطمئناً إلى ما توارد على عقله من خواطر وأفكار، وما عمر قلبه من مشاعر وعواطف، فزال عنه التردد، فلا تزعزعه العواصف، ولا تغيره الملمات والأحوال.
يقول لنفسه ما قاله الله تعالى في كتابه الكريم ((مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا)) الأحزاب 23. سيدي يا رسول الله قرأت في جميل مواقفك فوجدت أعرابياً جاءك يطلب شيئاً فأعطيته، ثم قلت له: أأحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي: لا ، ولا أجملت. فغضب المسلمون وقاموا إليه فأشرت إليهم أن كفوا، ثم قمت ودخلت منزلك، فأرسلت إليه وزدته شيئاً، ثم قلت له صلوات الله وسلامه عليك: أأحسنت إليك ؟ فقال الأعرابي: نعم، فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا، فقلت له: إنك قلت ما قلت آنفا، وفي نفس أصحابي من ذلك شيء، فإن أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي حتى يذهب ما في صدورهم عليك. فقال الأعرابي : نعم، فلما كان الغد جاءك الأعرابي فقلت: إن هذا الأعرابي قال ما قال فزدناه. فزعم أنه رضى، أكذلك ؟ قال نعم. فجزاك الله تعالى من أهل وعشيرة خيراً. فقلت صلوات الله وسلامه عليك : إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل له ناقة شردت عليه فأتبعها الناس فلم يزيدوها إلا نفورا، فناداهم صاحبها فقال لهم: خلوا بيني وبين ناقتي، فإني أرفق بها منكم وأعلم. فتوجه لها بين يديها فأخذ من قمام الأرض فردها حتى جاءت واستناخت وشد عليها رحلها، واستوى عليها، وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار.
تأملت ذلك في نهجك الكريم وسيرتك، فتعلمت أن قيمة الإنسان في قدرته على الحلم والصفح الجميل، وعلمت أن درجات الناس تتفاوت في الثبات أمام المستفزات والمثيرات، فمنهم من تطيش بلبه التوافه، ومنهم من تزيده الشدائد رسوخاً فيحتفظ برجاحة فكره وسلامة عقله وكريم خلقه، وأيقنت أن العظماء من المصلحين لا ينتهون بمصاير العوام إلى هذا الختام الأليم، بل ينظرون إليهم نظرة الشفوق الذي يدرك عند الآخرين ما قد يكونون عليه من قصور في الفكر، وتغير في الطبع، وغلظة في القول بفعل الظروف والأحوال.
سيدي يا رسول الله قرأت في صحيح حديثك الشريف «إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة فلم يبلغها بعمل، ابتلاه الله في جسده أو ماله، أو في ولده ثم صبر على ذلك، حتى يبلغه المنزلة التي سبقت له من الله عز وجل». وقرأت كذلك «إن الله لا يرضى لعبده المؤمن، إذا ذهب بصفيه من أهل الأرض فصبر واحتسب، بثواب دون الجنة». فأيقنت أن الصبر ضياء ، وأن منع الله للإنسان عطاء، وأن رضى المؤمن بحكم الله إنما هو ثقة في حكمة الله سبحانه، وعرفت أن الأقدار قد تكتب على المؤمن صنوفاً شتى من البلاء، وهنا ليس أمام الإنسان إلا أن يستقبل الابتلاء بالصبر الجميل، فإذا ما استحكمت الأزمات، وضاقت حلقاتها فإن الصبر يحمل للمؤمن شعاعاً للأمل، وبصيصاً من نور الفرج، فيعلم أن مع العسر يسرا ولن يغلب عسر يسرين، وأن البلاء هو تمحيص المجاهدين كما أن الملمات للرجال محل فارق بين تبرها والرصاص. وكما ورد في الأثر «ومن يتصبر يصبره الله، وما أعطى أحد عطاء خير وأوسع من الصبر».
أدركت هذا وغيره في عظيم شخصيتك، وبديع كلامك صلوات الله وسلامه عليك فزدت يقيناً بأنك كنت ولا زلت قرآنا يمشى على الأرض، وأنك استعليت على الخلق حتى صرت في مرتبة أنت فيها أولاً، والخلق ثانيا .سيدى وحقك إنى لأتمثل أعرابيا أضناه الشوق إليك واستشفع بك عند ربك فوقف فى أنوار روضك صلوات الله وتسليماته عليك – وقال: اللهم إن هذا حبيبك،و أنا عبدك، والشيطان عدوك، فإن غفرت لي سر حبيبك، وفاز عبدك، وغضب عدوك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك، ورضي عدوك، وهلك عبدك وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوك وتهلك عبدك، اللهم إن العرب الكرام إذا مات منهم سيد أعتقوا على قبره، إن هذا سيد العالمين فأعتقني على قبره.سيدى يارسول الله هذا حديث المحب عن حبيبه بثه قلمى شوقا إلى جنابك فأشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، وبلغت رسالة ربك حتى أتاك اليقين فجزاك الله تعالى خير ما جزى نبيا عن أمته، ورسولا إلى قومه.
أد. محمد عبد الرحيم البيومي
عميد كلية أصول الدين جامعة الأزهر