الضوابط الفنية الإجرائية لتخفيف أو معالجة الآثار البيئية للنشاط الصناعي
تتمثل هذه الضوابط بمجموعة من الإجراءات الواجب إنجازها لمعالجة الآثار البيئية للتلوث الصناعي، وهى بقدر ما ترتبط بنوعية العمليات الإنتاجية، سواء تلك التي تتعلق بمعالجة النفايات (المداخن والمرشحات) أو ما يتعلق منها بالعملية الإنتاجية ذاتها بإتباع أساليب الإنتاج الأنظف قدر الإمكان، فهي أيضا ترتبط في ضرورة المحافظة على الثروة المائية من التلوث.
إجراءات للحد من تأثير الصناعة على مياه الأنهار:
أن ضرورة توفير المياه للنشاط الصناعي بقدر أهميته فأن خطورته تكمن في استخدام الأنهار ثانية لتصريف الفضلات الصناعية السائلة، وهنا تكمن الخطوة البيئية في التوقيع المكانى للصناعات على الأنهار ولاسيما الملوثة منها.
أن معظم المخلفات السائلة للمصانع هي من المخلفات الملوثة، وأن طريقة التخلص منها بشكل تقليدى بصرفها إلى الأنهار والمسطحات المائية المجاورة يتسبب في تغير نظامها البيئى وتغير التركيب البايولوجى لها، لذلك لابد من إيجاد الحلول المناسبة للتخلص من تلك المخلفات ومن أهمها:
1 – استخدام وحدات المعالجة التقينة الملائمة لمعالجة هذه المخلفات السائلة قبل طرحها في النهر أو المجارى العامة. ويتم ذلك بإنشاء أحواض تعالج فيها المياه الملوثة بمحاليل كيماوية مختلفة أو غير ذلك من الوسائل وتجهيزها بالخبرة والمهارة التقنية العالية.
2 – إمكانية التخلص من بعض الفضلات عن طريق السقى، كما في حالة معامل الألبان مثلاً، ويفضل في هذه الحالة العامة إقامة المعامل في مناطق زراعية خارج المناطق السكنية بحيث تكون المياه المتخلفة مصدر رى للأراضى الزراعية، ولكن بعد تخفيفها بنسبة معينة، وقد وجد أن تركيز أقل من 75% من المخلفات السائلة للألبان نسبة إلى مياه الرى يمكن أن تعطى نتائج جيدة في نمو المحاصيل المختلفة. حيث تقوم تلك المخلفات بتجهيز التربة بحاجتها من عناصر الفسفور النايتروجين اللازمة لنمو المحاصيل، وبذلك تكون هناك جدوى اقتصادية بالاستغناء عن استعمال الأسمدة الكيمياوية التي تتركب من نفس تلك المواد الفوسفور والنايتروجين1).
3 – منع طرح الفضلات الصلبة مباشرة إلى النهر وروافده.
4 – منع توقيع المعامل الصناعية عند الأجزاء الشمالية من مجارى الأنهار، بل يجب أن يكون التوقيع تجاه المجرى وأسفل المناطق السكنية، تجنباً لرمى المخلفات السائلة لهذه المعامل في الأنهار أو المجارى المرتبطة بها وبالتالي خطورتها على ساكنى هذه المدن.
5 – التنسيق في استعمالات الأرض المرتبطة بالأنهار وهو ما سيتم التطرق إليه لاحقاً.
وحدات المعالجة والمرشحات لملوثات العملية الإنتاجية:
أن المخلفات الصناعية التي تحتوى على مواد ملوثة تسبب مشاكل بيئية عديدة، لذلك ينبغى اتخاذ الإجراءات اللازمة لمعالجة هذه المخلفات، سواء الفنية منها كالمداخن أو تقنية كالمعالجات الفيزياوية والكيمياوية والبيولوجية.
أ – المداخن وارتفاعها:
المدخنة هي مصدر لتصريف عمودى للغازات الملوثة للجو. هذا التصريف يعتمد على ارتفاع المداخن، فإذا كانت المدخنة واطئة فإن الغازات تطلق إلى الجو مع تيار الهواء الذى يكون اتجاهه نحو الأرض بسبب وجود الأبنية التي تعيق حركته بخط مستقيم وبذلك تصل هذه الملوثات إلى سطح الأرض. أما إذا كانت المدخنة عالية فأن الغازات المنبعثة منها تتجه باتجاه واحد مع مسار الريح، لعدم تأثر تيارات الهواء العلوية بأي عائق.
هناك إذن علاقة عكسية بين ارتفاع مدخنة المصنع وتراكيز الانبعاثات في الموقع الصناعي والمنطقة المحيطة به. وبصورة عامة فإن ارتفاع المدخنة يجب أن يكون 5ر2 مرة من ارتفاع بناية المصنع حتى لا تتقاطع مسيرة الغازات المنبعثة من المدخنة مع بناية المصنع، إذ أن تقاطعها يعنى انتشار الغازات حول الموقع الصناعي والمناطق القريبة منه ومن ثم ارتفاع تركيزها في تلك المناطق، وتجدر الإشارة هنا إلى ضرورة تحديد ارتفاع المداخن بالشكل الذى لا يؤثر على جمالية المنطقة.
ب – المعالجات الوضعية والمرشحات:
أن أهم هذه المعالجات هي المعالجات الفيزيائية التي تشمل إزالة المواد العالقة والطافية ضمن المخلفات الصناعية إزالة مباشرة بواسطة الترسيب. أما المعالجات الكيماوية فتتم من خلال إزالة المواد الملوثة من المخلفات الصناعية بواسطة التصفية (screening) ومعاملة المواد كيماوياً عن طريق ترسيب الإيونات الموجبة والسالبة كمركبات غير ذائبة يمكن فصلها كراسب أو إزالة المواد العالقة بإضافة أملاح ذائبة تكون هيدروكسيدات غير ذائبة يمكن من خلالها التخلص من المواد الملوثة ضمن المخلفات الصناعية السائلة.
أما المعالجات البيولوجية فيمكن إزالة المواد العضوية ضمن الحلقات الصناعية عن طريق الأحياء المجهربة أو الاهتزاز، وتعتبر من أحسن وأرخص طرق التصفية، تخرج من خلالها المياه بنوعية جيدة من المواصفات يمكن بعدها تصريفها بسهولة إلى المياه السطحية.
وتستخدم المرشحات لتصفية الملوثات الغازية للمصانع وكذلك في نصب محطات قياس في أماكن منتخبة في المدينة. أن هذه المحطات تحتوى على عدد من الأجهزة اللازمة لقياس تراكيز أو مستوى التلوث في الهواء، وأن كل جهاز من هذه الأجهزة يعمل على تسجيل أو إعطاء قرارات مستمرة بحيث يمكن من خلاله معرفة تركيز معدل ساعة ومعدل يوم ومعدل شهر والمعدل السنوى ومن ثم تقارن هذه المعدلات مع ما يقابلها من التراكيز المقاسة للتراكيز المسموح بها. ومن الأمثلة التي أصبحت واضحة لدينا جميعا اتساع ثغرات طبقة الأوزون، تلك الطبقة القريبة من سطح الأرض، أن سبب ذلك يعود إلى الملوثات الغازية المنبعثة من النشاطات الصناعية، وخاصة في الدول الصناعية المتقدمة.
أن دراسة وفتح مراكز قياس مستوى التلوث حيث المواقع الصناعية يعد من الواجبات الحتمية للوصول إلى الهدف المطلوب. وتتضمن تزويد المصانع بأجهزة عالية التقنية للحد من الملوثات المنبعثة مثل جهاز إزالة الغازات الذائبة، وإضافة المصافى والمجمعات الحلزونية التي تقلل من انبعاثات الحبيبات الملوثة الدقيقة، حيث أن هذه الحبيبات تشكل مصدر الخطر الصحى في المناطق الصناعية، وكذلك إجراء تعديلات على أنظمة الاحتراق الداخلي لمحركات السيارات بهدف تقليل العادم الذى يحتوى على الملوثات المختلفة.
تدوير المخلفات والإنتاج الأنظف:
أن معالجة إشكاليات التلوث الصناعي سواء بالحد منه أو منعه كلياً، إن كان هذا ممكناً، تجرى اليوم في إطار مفهوم ما يسمى بـ “الإنتاج الأنظف” (Cleaner production) الذى يعرفه برنامج الأمم المتحدة للبيئة على النحو الآتى:
“الإنتاج الأنطف يعنى التطبيق المستمر لإستراتيجية وقائية متكاملة على العمليات والمنتجات للإقلال من المخاطر على الإنسان والبيئة. ويشمل الإنتاج الأنظف بالنسبة إلى العمليات الصناعية الحفاظ على المواد الخام والطاقة واستبعاد المواد الخام السامة والإقلال من كمية وسمية الانبعاثات والنفايات جميعاً قبل أن تغار العملية الإنتاجية. ويتركز الهدف الرئيسي في الإنتاج الأنظف على الإقلال من الآثار الضارة للمنتجات على كامل امتداد حياة المنتج بداية من استخراج المواد الخام اللازمة لإنتاجه وحتى التخلص منه في النهاية. وهدف الإنتاج الأنظف هو عدم توليد المخلفات في المقام الأول، ويتحقق هذا الإنتاج بتطبيق المعارف العلمية المتطورة وتحسين التقنية الإنتاجية وتعديل مواقف الإنسان ورفع مستوى وعيه البيئى.
إن إخضاع استخدام الموارد في العملية الإنتاجية إلى التخطيط والسيطرة من الضرورة بحيث يجب أن تكن الإجراءات والأساليب الوقائية في حماية البيئة المعتمدة تمنع الضرر قبل وقوعه، إلا أن تعمل على علاجه بعد وقوعه ويجب التأكد من أن المنتجات بعد تحولها إلى مخلفات لا تكون مصدر خطر على البيئة وصحة الإنسان أو الكائنات الحية الأخرى، وهو ما يتطلب دراسة هذه الإجراءات والأساليب وبأفق زمنى يؤهلها للتطبيق. إضافة إلى أن استخدام هذه الإجراءات يجب أن يهدف أيضاً للحد من الاستهلاك الترفى الذى لا مبرر له، والذى هو هدر للموارد من ناحية ومصدر للتلوث الصناعي من الناحية الأخرى. ومن أهم هذه الإجراءات هي الإجراءات التكنولوجية وتلك التنظيمية وأخيراً الإجراءات الاقتصادية.
أ – الإجراءات التكنولوجية:
1 – السعى إلى إقلال احتياجات العملية الإنتاجية من الخامات والطاقات منعاً للهدر في الموارد، أما برفع كفاءة العملية الإنتاجية ذاتها أو بتعديل وتصميم المنتج، بحيث يؤدى الغرض نفسه بكميات أقل من المادة والطاقة.
2 – اعتماد المواد الأقل ضرراً بدلاً من المواد الضارة أو السامة.
3 – تطوير العملية الإنتاجية بحيث تقل إفرازتها من الانبعاثات الغازية أو التصرفات السائلة أو المخلفات الصلبة.
4 – تطوير تلك المنتجات الأقل استهلاكاً للمادة والطاقة وأقل ضرراً للبيئة أثناء وبعد استخدامها في العلميات الإنتاجية.
5 – تدوير المخلفات وإعادة استخدامها (معالجتها) كمدخلات بديلة من المادة والطاقة. ومن الأمثلة الشائعة في ذلك إعادة استخدام الحديد والصلب أو الالمنيوم أو الرصاص، أو بعض اللدائن، أو استخدام المــــبادلات الحرارية في التسخين للإقلال من استهلاك الطاقة والوقود.
أن هذه الإجراءات الخمس إنما تتوقف في كفاءاتها على عدة بدائل تكنولوجيا، للحد من التلوث على طبيعة النشاط الصناعي، ونوعية المنتج والخامات المستخدمة في إنتاجه.
ب- الإجراءات التنظيمية:
1 – يجب أن تفرض على المؤسسات الصناعية قوانين وضوابط وحوافز ومعايير بيئية بما في ذلك إدارة النفايات والصحية المهنية والسلامة للعمال.
2 – وضع أدوات في الرقابة على التنفيذ.
3 – اعتماد إجراءات معينة للتعامل مع التجاوزات.
ج – الإجراءات الاقتصادية:
أن التلوث شكل من أشكال الهدر، ومظهر من مظاهر انعدام الكفاءة في الإنتاج الصناعي، مما يتطلب تخصيص جزء من الاستثمارات لتحسين المنتجات والعمليات لزيادة الكفاءة وبالتالي تقليل التلوث والنفايات التي تفرزها من خلال:
1 – تشجيع الصناعات على حصر التكاليف البيئية داخلها وعكسها على أسعار المنتجات.
2 – اعتماد إجراءات أخرى بالإضافة إلى زيادة الحوافز، في تقليل التلوث: كسياسات تسعير الطاقة والماء على سبيل المثال، والتي يمكن أن تدفع الصناعات على تقليل الاستهلاك، كما يمكن التشجيع على إعادة تصميم المنتج وعلى الابتكارات التكنولوجية التي تؤدى إلى منتجات أجود وعمليات أعلى كفاءة وإلى إعادة تدوير المواد الأولية.
3 – يجب أن يكون الهدف الأساسي هو تقليل كمية ما يجرى من النفايات وتحويل قدر متزايد منها إلى موارد للاستخدام وإعادة الاستخدام.
الوعى البيئى ضرورة في البناء الذاتى لحماية البيئة:
أن قضية البيئة وما تعانيه من تدهور واستنزاف وسوء استخدام أصبحت من القضايا الملحة في عالمنا المعاصر بعد أن وصلت الأمور إلى وضع حرج أصبح يخشى مع استمراره إلى حدوث مشكلات بيئية ليس من السهولة تجاوزها. ولعل ما تواجهه البشرية اليوم من مشكلات وكوارث بيئية متباينة ومتشابكة أن دل على شيء فإنما يدل على غياب الوعى والحس البيئى وتجاهلنا للكثير من الأمور القانونية والدينية والاجتماعية التي تحكم سلوكياتنا وتصرفاتنا تجاه بيئتنا. وبالرغم من أن قضية البيئة أصبحت قضية عالمية تهم الدول الكبرى والصغرى كلا حسب طاقاته وحجمه، فالحلول الفاعلة مازالت بعيدة. ويتبين أكثر فأكثر أن الدول المعاصرة قادمة على أزمة مصيرية حادة إذا لم يعالج الوضع البيئى بالسرعة الممكنة وهذه المعالجات بالذات لا تقتصر على المحافظة على مظاهر البيئة الطبيعية والتوازن الايكولوجى بل تتعداها إلى التنمية والإعمار ومحاربة التلوث، وأكثر من ذلك إيجاد العلاقة المميزة بين المواطن وبيئته من أجل حثه على اعتبارها جزءاً قائماً من ذاتيته يقتضى عليه الاعتناء به، لأن البيئة تشكل الوجه الحضارى للمجتمع الهادف إلى الحياة والتقدم.
أن مشكلاتنا البيئية هي من صنع الإنسان، أنها حصيلة حضارتنا الصناعية والعلمية، والتي لم يرافقها وعى للآثار الجانبية ومخاطرها بعيدة المدى على الإنسان والبيئة، مما يتطلب بذل الجهود لاحتوائها، إذ لابد من العمل الجاد على تغير اتجاهات الإنسان نحو البيئة من اتجاهات عدوانية أو سلبية إلى اتجاهات ومواقف إيجابية تتجلى في الحفاظ على البيئة واحترام نظامها وتوازنها بغية الوصول إلى السلامة في بيئة صحية.
وتختلف العوامل المؤثرة على الالتزام اختلافاً جوهرياً من بلد لآخر ومن منطقة لأخرى داخل البلد الواحد، نتيجة لتباين الظروف الاقتصادية والاجتماعية واختلاف في العادات السائدة في المجتمع أو سلوك أفراده، ومدى اقتناعهم بأهمية حماية البيئة ومنع التلوث، ونشر الوعى البيئى يجب أن يؤخذ في الاعتبار ضرورة تغير السلوك الإنسانى تجاه البيئة.
أن سوء السلوك البيئى للإنسان هو الذى أدى إلى قائمة المشاكل البيئية المعقدة التي تواجهها البشرية، لذلك فإن المفهوم الحديث للنظام البيئى أصبح يدور حول الإنسان وحمايته من نفسه، وذلك بالاهتمام والمحافظة على جميع العوامل والخصائص البيئية التي تؤثر بشكل مباشر أو غير مباشر على نوعية الحياة البشرية. لذلك فإن العناصر الرئيسية للنظام البيئى حسب المفهوم الحديث هي كما يلى:
1 – تنظيم استعمالات الأرض وتنميها بما يتلائم مع الزيادة المضطردة في تعداد السكان واحتياجاتهم من العناصر الأساسية للحياة: الماء والهواء والغذاء، وحماية هذه العناصر من التلوث.
2 – وضع الأسس السليمة للبيئة الصحية والاجتماعية في المدن ومناطق التجمعات السكنية وخاصة ما يقام منها نتيجة لهجرة الأيدي العامل بسبب التصنيع والتحضر.
3 – الحفاظ على الثروات الطبيعية المتجددة بما في ذلك الثروة البشرية والسياحية وضرورة الاهتمام بها واستغلالها.
4 – ترشيد وحسن استغلال الثروات الطبيعية غير المتجددة وأهمها مصادر الطاقة والثروات المعدنية والبحث عن مصادر جديدة لها.
ولعل أبرز هذه الوسائل التربية البيئية الصحيحة لشرائح المجتمع، وجعل قضايا البيئة جزء لا يتجزأ من قضايا التنمية الشاملة، باعتبار أن التربية البيئية هي الوسيلة الوحيدة القادرة على إعداد جيل أو أجيال تتميز باتجاهاتها الإيجابية نحو البيئة والتعاون السليم معها، وهى التي تساعد الفرد على معرفة مسئوليته وواجباته تجاه بيئته البشرية والطبيعية، وأيضا هي التي تجعله يدرك أهمية التوازن البيئى بين الإنسان ومحيطه، وهو ما يجب النهوض به وتنميته بين كافة شرائح المجتمع بما يتفق والواقع الاقتصادي والاجتماعي والثقافي1). وهناك مجموعة من العوامل التي تؤثر على هذا الوعى وبالتالي امتثال الأفراد والمجتمعات في المحافظة على البيئة، منها حوافز اقتصادية وعوامل سياسية ومؤسسية وإيجاد آلية ردعية وأنماط للسلوكيات الاجتماعية وتوفير مساعدات فنية لإدراك المتطلبات البيئية والحاجة إلى تشريعات بيئية. وأخيراً تقييم التأثير البيئى كوسيلة وقائية لتحقيق الامتثال البيئى لاستمرارية الأداء التنموى كضرورة خاصة في اقتصاديات الدول النامية.
أن التنمية والمحافظة على البيئة وحمايتها هما نشاطان بشريان غير متناقضين، فبينما تهتم التنمية بتوفير حاجات الإنسان وتحسين ظروفه المعاشيه بالانتفاع من مكونات البيئة المحيطة بها، فإن حماية البيئة والمحافظة عليها هي استمرارية لهذا النهج التنموى في إطار البيئة السليمة. وعليه فالوعى بأهمية التوازن بين حماية البيئة والسير في طرق التنمية، أمر ضرورى وأساسى وهو ما يطلق عليه اليوم بالتنمية وفق المنظور البيئى. أي مدى مساهمة هذه الإجراءات الفنية والتخطيطية، في تقليل التلوث الصناعي وحماية البيئة إنما يعتمد على:
1 – مدى الجدية في تطبيق القوانين والأنظمة الخاصة بالتلوث وقيام الإدارات المختصة بإصدار التعليمات ذات العلاقة في تقليل التلوث وتقليصه وربما منعه.
2 – اتخاذ الخطوات اللازمة في إعادة النظر باستعمالات الأرض، وخاصة الصناعية منها، على المستويين المحلى والإقليمى، وخلال فترات زمنية متعاقبة.
3 – مدى الجدية في اعتماد المنظور البيئى للتنمية الصناعية كضمان لحماية البيئة واستمرارية أداءها التنموى للأجيال القادمة.
النقل والترحيل:
تتمثل مبررات النقل والترحيل للمشاريع الصناعية بمايأتى:
أ – ترحيل المنشآت الصناعية ذات الأثر الكبير المتصف بالخطورة على الصحة والبيئة إلى خارج حدود المخطط الأساسي للمدينة مهما كان موقعها الحالى ما دامت ضمن حدود المخطط الأساسي للمدينة أو القريبة منه، ويمكن تخصيص مناطق صناعية لها. ويقدر بعدها عن الحدود وفقاً لطبيعة ودرجة التلوث التي تسببها تلك الصناعات. ومن الأمثلة على ذلك معامل الأسمنت، معامل الأسفلت، معامل الدباغة، كسارات الحجر ومختلف مصانع المنتجات البتروكيماوية والكيماوية. وإذا تعذر نقل هذه المنشآت الصناعية بسبب استثماراتها العالية فإن من الضروري أحاطتها بمناطق حماية كافية، إضافة إلى تزويدها بوسائل السيطرة على التلوث من أجهزة ومعدات تكنولوجية.
ب – نقل المنشآت الصناعية ذات الأثر البيئى المتوسط التأثير في خطورته على البيئة المحيطة، إذا كانت في منطقة سكنية أو تجارية حاليا إلى منطقة صناعية داخل حدود المخطط الأساسي للمدينة، مع تجهيزها بوسائل السيطرة على التلوث، أو إلى منطقة صناعية قريبة من مركز المدينة. ومن الأمثلة على ذلك مصانع الحلويات، معامل الخياطة الكبيرة، مصانع الثلج…الخ. وتقع ضمن هذه الفئة أيضا النشاطات الصناعية الواقعة داخل المناطق السكنية أو التجارية والمتميزة بكبر حجم القوة العاملة أو كبر منتجاتها أو متطلباتها من مصادر الطاقة، وكذلك المنشآت الصناعية التي تحتاج إلى تحميل وتفريغ لموادها الأولية أو منتجاتها لعدة مرات أثناء اليوم. ومن الأمثلة على ذلك: معامل الزيوت النباتية، الصابون ، المشروبات الغازية والروحية، الألبان وجميع الصناعات المعدنية الخفيفة كمصانع الأثاث المعدنى والأبواب والشبابيك الحديدية….الخ.
ج – التعامل مع المواقع الحالية للمنشآت الصناعية الصغيرة ذات القوة العاملة المحدودة والمشاريع الحرفية الصغيرة المتميزة بانعدام الأثر البيئى كلياً أو نسبياً، على أساس طبيعتها العامة كدرجة اتصالها بالمستهلك أو طبيعة منتجاتها، كما هو الحال لبعض المصانع الغذائية الصغيرة ومعامل الخياطة والحياكة الصغيرة وورش التصليح… الخ، فالمواقع المناسبة لها في مراكز الأحياء أو القطاعات السكنية أو في مجمعات حرفية خاصة. أما ورش الحدادة والنجارة الصغيرة وورش تصليح وسمكرة السيارات.. فيمكن تجميعها في مناطق الخدمات الصناعية.
د – وهناك بعض الحرف لا يتطلب حصرها في مواقع معينة مثل ورش تصليح الإطارات وكهربائيات السيارات والأعمال الميكانيكية الصغيرة المتصلة بها، إلا أن مواقعها يجب أن تكون خاضعة للضوابط والشروط البيئية.
المواقع الصناعية الجديدة:
وتتمثل في إنشاء وتهيئة مواقع ملائمة بيئياً لإيواء المنشآت الصناعية التي سوف تنتقل أو التي ستقام مستقبلاً، وعزلها بحزام أخضر وحمايتها بسعة مساحية مناسبة مع توفير كافة الخدمات والمرافق الأساسية والثانوية لها مسبقاً لإقامة المشاريع الصناعية فيها على أساس
1 – التكامل والتشابك الصناعي للمشاريع الصناعية المقترحة.
2 – الترابط المكانى للمنشآت الصناعية بمصادر المواد الأولية أو عوامل التوطن الصناعي الأخرى.
وبذلك فإنه يمكن إنشاء مناطق صناعية متخصصة (وحيدة الغرض) مثلاً للصناعات الغذائية أو مناطق صناعية غير متخصصة (متعددة الأغراض) وتحوى على فعاليات صناعية متنوعة. وهى في هذا وذاك تسهل عملية السيطرة على مصادر التلوث لتحديدها ضمن حيز مكانى محدد مسبقاً بآثارها الاقتصادية والبيئية تحقيقاً لمتطلبات التنمية المستدامة.
التشريعات البيئية: ضوابط في تكامل المنظور الاقتصادي البيئى للموقع الصناعي:
أن المؤسسات والمنظمات المسئولة عن حماية البيئة في كل دولة تقوم بتشريع قوانين يجب الالتزام بها وتطبيقها، وأن لا يتم إنشاء أي مصنع قبل الحصول على إجازة أو رخصة بيئة بعد القيام بدراسة وافية للمصنع المراد إنشائه من حيث طريقة الإنتاج، المواد الأولية المستخدمة، ونوع الملوثات المطروحة (صلبة، سائلة، غازية، وكمياتها، فضلاً عن دراسة بعد المصنع عن المواقع السكنية.
وعلى الرغم من قدم التشريعات البيئية والوطنية، إلا أنها كانت محدودة وتكاد تكون معدومة في بعض الدول النامية. وخلال العقود الماضية تزايدت أعداد الدول التي وضعت قوانين خاصة بالبيئة وتحقيق التنمية المستدامة. ولاشك أن المبادرات والاتفاقيات الدولية1) قد دعمت نشاط الدول لوضع وتحديث إستراتيجيات وخطط وتشريعات البيئة الوطنية، ويتضمن هذا النشاط زيادة الالتزام الوطنى بالتنمية المستدامة وتقوية المؤسسات البيئية وتفعيل تكامل القوانين البيئية ومشاركة كل وحدات المجتمع وإعداد خطط المتابعة وتقييم الآثار البيئية، وغير ذلك من الجهود لتفعيل النشاطات البيئية المحلية والعمل المستمر لمواجهة الإجراءات وتحديث المعايير والمقاييس والإرشادات الخاصة بتطوير وحماية البيئة.
وفى مسار تحليل الموقع الصناعي، في إطاره البيئى، ضمن الاتجاهات الراهنة الاقتصاديات الدول النامية، دلائل إيجابية على تعمق هذا التحليل والاهتداء به من خلال بعض المؤشرات المهمة، منها على سبيل المثال:
1 – صاحب الاتجاه إلى خصخصة قطاع الأعمال العام وزيادة مساهمة القطاع الخاص في مشروعات التنمية الصناعية حدوث تطور في الفكر البيئى للإدارة الصناعية من حيث الاهتمام بتحديث أساليب الإنتاج كوسيلة للوقاية والحد من التلوث عند المنبع، قبل حدوثه، بدلا من التركيز على المعالجة النهائية وحدها.
2 – جرت في حالات كثيرة، دراسة المشكلات البيئية والتعرف على الحلول المناسبة لها، وذلك من خلال دراسات المراجعة البيئية التي أجريت في العديد من المنشآت الصناعية خلال الأعوام الأخيرة.
3 – تقوم بعض المنشآت بالامتثال الطوعى وإنشاء وحدات لمعالجة التلوث أو تطوير الإنتاج للحد من الفاقد، إلا أن غالبية المنشآت الصناعية لم تصل بعد إلى مرحلة توفيق أوضاعها، ويسعى معظمها إلى تنفيذ مشروعات بيئية، وقد تحتاج إلى فترة أطول للوصول إلى الامتثال لمتطلبات التشريعات البيئية.
وتمثل هذه الدلائل عوامل ساهمت في تحقيق نوع من الالتزام البيئى في الدول المعنية يمكن صياغتها بالصورة الآتية:
1 – خصخصة قطاع الأعمال العام.
2 – تطور الفكر البيئى للإدارة الصناعية.
3 – تحديث أساليب الإنتاج.
4 – دراسة المشاكل البيئية والحلول والمعالجات المقترحة.
5 – محاولة الامتثال لمتطلبات التشريعات البيئية.
أن تكامل المنظور الاقتصادي – البيئى للموقع الصناعي، في إطار التشريعات البيئية، إنما يتبلور في كون سياسات تخطيط الموقع الصناعي تتعامل في اتجاهين في آن واحد:
الاتجاه الأول: من وجهة نظر رجال الأعمال (المستثمرين) والتي تتماش ىمع مصالحهم الخاصة من حيث توفر المواد الخام ووجود الأسواق وتوفر المهارات وكذلك في توفر شبكات النقل والطاقة والخدمات العامة، وهى بذلك تركز على الاعتبارات الاقتصادية القائمة على تحقيق أقصى ربحية ممكنة، دون اكتراث للآثار البيئية الناجمة عن الفعاليات الصناعية.
الاتجاه الثاني: من وجهة نظر المصلحة العامة والتي تتجنب المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي تضر بالصالح العام، مثل تكريس ظاهرة ثنائية التنمية المكانية، وبالتالي تفاقم مشاكل الهجرة من الريف إلى مراكز المدن وما يترتب على ذلك من اختلال في التوازن الديموغرافى وتعقد مشاكل المدن ومن أهمها انتشار التلوث بكافة أنواعه.
وإذا كان الاعتبار البيئى في عمليات التخطيط للمواقع الصناعية يمكن اعتماده من خلال البرامج الانمائية للمشاريع العامة وبالذات الصناعية منها، فإن مشاريع القطاع الخاص تتطلب وضع ضوابط قانونية وتشريعات بيئية للحد من الآثار البيئية لتلوث هذه المشاريع.
إلا أن ما يجدر الإشارة إليه هنا، هو أنه قد لا يكون تشريع قوانين بيئية فقط هو الأسلوب الأفضل للحد من التلوث لضمان تنمية مستدامة، وإنما لابد وأن تكون متكاملة مع إستراتيجيات هذه التنمية بما فيها من مبادرات اقتصادية وتكنولوجية. وهذا يتطلب ضرورة وجود مشروع متكامل للتدابير والتشريعات التي يمكن أن يتضمنها نظام خاص يعكس جملة من المعايير البيئية والأهداف والأولويات الإدارية للسياق البيئى والإنمائى، وعليه فإن للدولة دور في إيجاد توازن بين هذه المصالح المتضاربة من أجل ضمان مواصلة التنمية الاقتصادية والحفاظ على التوازن البيئى للأجيال الحالية والقادمة1). إذ تشمل التشريعات البيئية مجموعة من المواضيع مثل تخطيط استعمالات الأرض (بما في ذلك آليات التخطيط الحضرى والتجمعات السكانية) وتقييم آثار المنشآت الصناعية على الوضع البيئى المحيط وتشريعات ضريبية على متنجى الملوثات. وهذه الإجراءات نجد ذاتها مهمة وضرورية، ولكنها قد تعيق التنمية إذا لم تربط مع العناصر الاقتصادية والاجتماعية الأخرى ذات العلاقة. ولن يكون بالإمكان تحقيق ذلك إذا جرى تهميش المنظور البيئى واستبعد من مراكز صنع القرارات الإنمائية الشاملة. فليس المهم هو تحقيق الربحية المادية للمشروع وإنما هو أيضاً المنفعة الاجتماعية، ومحاولة الموازنة بين الهدفين معاً، في إطار الاقتصاد الوطنى باعتماد التخطيط الإقليمي2).
أن تركز المواقع الصناعية بفعل الوفورات الخارجية، قد ينعكس كما لاحظنا سابقا على آثار سلبية تتجلى واضحا في المدن الكبرى3)، لذلك من الضروري تشجيع تنمية المدن الصغرى للتقليل من الضغط على المدن الكبرى، في توافق السياسات الحضرية مع البعد الإقليمي للتنمية، باعتماد الحوافز التشجيعية أو الإجراءات الرادعة أو كلاهما معاً، لتحديد مواقع النشاط الصناعي تماشياً مع المصلحة العامة، والتي من أهم متطلباتها حماية البيئة بنوعين من الإجراءات الرئيسية:
أ – المنشآت المقرر نقلها والتي يطلب منها طبقاً لأحكام القوانين البيئية، إعداد دراسة تقويم الأثر البيئى في مواقعها الجديدة وتقديمها إلى الأجهزة المعنية، والغرض من هذه الدراسة ضمان أن تتخذ المنشأة في موقعها الجديد كل الإجراءات اللازمة للتحكم في تأثيراتها البيئية.
ب – المنشآت التي لا يوجد قرار بنقلها، يطلب منها إعادة اتخاذ إجراءات لتوفيق أوضاعها مع القوانين البيئية ومراعاة ألا تكون هذه الإجراءات مكلفة، وأن يجرى تشغيلها بسهولة وبطريقة مستمرة في مواقع الوحدات الإنتاجية القائمة، حماية للبيئة المحيطة والتجمعات السكانية المتاخمة.
إن ذلك كله يتطلب تحديد الآلية اللازمة لتنفيذ النظام والعقوبات الرادعة في حالة تجاوز بنوده مع تحديد الجهات المناط بها حماية وصيانة البيئة قانوناً، لجعل برامج حماية البيئة أكثر فاعلية. وهذا يتطلب العمل على معالجة العجز في تنفيذ التشريعات البيئية، وأهمها الجهاز البيئى الرسمى في الدول النامية، طوال السنوات الماضية، إلى المعلومات الكافية لمعرفة مدى التزام الملوثين للقواعد أو عدم التزامهم بها أصلاً.
ولاشك أن التلوث البيئى يهدد عملية التنمية الاقتصادية، ويعد ذلك في حد ذاته، حافزاً على تطبيق التشريعات البيئية التي تعالج نطاقاً واسعاً من القضايا بدءاً من التلوث الصناعي وحماية الموارد الطبيعية وصيانتها، وانتهاءاً بالقوانين التي تتناول القضايا المستقبلية مثل حماية طبقة الأوزون. وبهدف عام استفحال هذه المشاكل، وخاصة في الدول النامية، يستوجب عليها أن تواجه الأمر ومنذ البداية بالاستفادة من تجارب الدول في التنمية وتجاوز العقبات التي تعيق تطورها ورفاهية شعوبها.
وأولى متطلبات ذلك هو الاهتمام بالجانب البيئى للتنمية، وبالذات الصناعية منها، والتعامل مع تأثيراتها البيئية قبل وقوعها، وفى هذا الصدد يتطلب:
1 – وضع نظام متابعة دورى لتنفيذ مدى تطبيق المنشآت الصناعية للشروط والمعايير البيئية واتخاذ التدابير اللازمة بشأن المخالفات وإيقاف هذه المنشآت عن العمل بصورة مؤقتة وفرض عقوبات مناسبة للحد من تلوثها للبيئة.
2 – إعادة تنظيم مواقع المشاريع الصناعية وأتباع الأسس التخطيطية الحديثة في اختيار مواقع هذه الصناعات، واستخدام مختلف وسائل المعالجة والسيطرة على المخلفات الصناعية وتوفير أجهزة ومعدات تكنولوجية أو إتباع طرق تقنية وفنية حديثة للحد من التلوث الصناعي.
3 – وضع قوانين تجبر المصانع على تخصيص جزء من أرباحها للإصلاح البيئى.
4 – تطوير البرامج الرقابية لقضايا التلوث الصناعي وأساليب التخلص من النفايات سواء كانت صلبة أو سائلة، بالإضافة إلى تشجيع برامج إعادة التدوير وفرز النفايات، وتفعيل برامج الوعى البيئى للتغير نحو الأفضل في التعامل مع البيئة.
5 – التركيز على النوعية في تصنيع المنتج وزيادة كفاءة العمليات الإنتاجية ورقابة الجودة1).
6 – التوجه الحثيث نحو استعمال الطاقة المتولدة من الشمس والرياح والمد والجزر كونها غير ملوثة.
7 – التركيز على تخطيط المدن ومراقبة نمو سكانها وأنشطتها الاقتصادية وتخطيط حركة المرور وزيادة المساحات الخضراء وعدم السماح بقيام أنشطة صناعية داخل المدن قدر المستطاع.
8 – توفير إستراتيجيات تنمية صناعية تعمل جنباً إلى جنب مع إستراتيجيات حماية البيئة، لغرض وضع الحلول المناسبة لمشاكل التلوث الصناعي.