حمدي الجمل
الدولة هي أرق النظم الاجتماعية التي توصلت إليها الإنسانية، ونموذج الدولة جاء بعد معاناة كبيرة وصراع بشري مرير استمر لآلاف السنين. وكُتب هذا النموذج وهذا التوافق الاجتماعي بمداد دماء إنسانية لصياغة آليات النظم التي تحكم هذا الصراع على الثروة، وتعيد توزيعها بشكل عادل. في مقابل أن يتنازل كل فرد في المجتمع عن جزء من حريته وقناعته وقدراته وميوله ورغباته من أجل الوصول إلى هذا المصطلح الأمثل المسمى بالدولة، التي تحكم بمجموعة من القوانين تم الاتفاق عليها مجتمعيا.
والدولة في مقابل ذلك تعمل على تحقيق الرفاه الاقتصادي للمواطنين اعتمادا على نظريات اقتصادية عدة تستخدمها أداة ووسيلة للحكم. أي إن النظرية الاقتصادية ليست لها قيمة في حد ذاتها، بل تستمد هذه النظرية قيمتها عندما تنجح الدولة في استخدامها، بخلق حالة من الرفاه الاقتصادي وصولا إلى مفهوم العدالة الاجتماعية.
لكن الغريب في الأمر أن الدولة المصرية التي رفعت شعار الرأسمالية المتوحشة منهجا لها خلال سنوات حكم الرئيس مبارك، ثم المجلس العسكري بعد أحداث يناير، مرورا بفترة حكم الإخوان الأسوأ، وصولا إلى الرئيس السيسي، لم تخلق الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، ولم تحقق العدالة الاجتماعية بين المصريين، ولم توزع الثروة بشكل عادل بين طبقات الشعب، وبالتالي فشلت النظرية الاقتصادية التي حكمت بها وحكمت لها الدولة المصرية، دون أدني اعتبار لفلسفة النظرية الاقتصادية، مما يهدد مفهوم الدولة المصرية ذاتها، إذا استمر هذا الخلل في طريقة الأداء الاقتصادي الذي يعتمد عليه نظام الحكم .
وإذا كانت الرأسمالية المتوحشة قدر الشعب المصري، فلماذا لا تطبق الحكومة الرأسمالية بشكل كامل من خلال سن قوانين لمنع الاحتكار وتجريمه، واعتماد نموذج الضرائب التصاعدية وفرض ضريبة على الأرباح الرأسمالية، كما هو متبع في كل دول العالم الرأسمالي؟ ولماذا لم تتخذ الحكومة المصرية منهج العدالة الاجتماعية المعمول به في أمريكا وفرنسا وإنجلترا وألمانيا بالتعليم المجاني وبرامج التأمين الصحي؟ لماذا تنحاز الحكومة المصرية إلى طبقة الأغنياء؟ أو بالأحرى لماذا تخلق الدولة طبقة من الأغنياء بالتنازل عن حقوق الشعب تحت دعوى الاقتصاد الحر وآليات السوق والخصخصة؟ إنها رأسمالية مصنوعة لأنه لا توجد في مصر عائلات رأسمالية صناعية لها جذور أو أجيال ممتدة تصل إلى الأجداد أو حتى الآباء.
إذا كانت الرأسمالية النموذج الأمثل الذي تراه الدولة المصرية وسيلة صالحة لها، وتستطيع من خلاله تحقيق حياة اقتصادية أفضل للمواطنين، فلا بأس، شريطة أن تعتمد النموذج الألماني أو الرأسمالية الاجتماعية ذات الطبقة المتوسطة الواسعة التي تصل إلى 80 % من الشعب، بدلا من نظام الكمبوند المغلق على شريحة من الأغنياء لا تتعدى نسبتها 10% من الشعب. رغم المخاطر الاجتماعية والاقتصادية التي يحملها هذا الانحياز إلى هذه الطبقة على الدولة، أو التحول إلى رأسمالية الدولة، كما المتبع في نموذج الاقتصاد الصيني. أما ما يحدث الآن من رهن قرار أمة عظيمة مثل مصر لمؤسسات التمويل الدولية، بتنفيذ أجندة صندوق النقد والبنك الدوليين، فهو احتلال كامل لمصير شعب ومستقبل وطن بعد ارتفاع معدلات القروض الخارجية بشكل لافت للنظر، والتجارب العالمية في اليونان والأرجنتين والبرازيل والمكسيك تؤكد ذلك، وإن كنا لم نعانِ الآلام التي عاشتها هذا الدول، فيكفي أن ننظر إلي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر، منذ أن قررت الدولة المصرية الذهاب إلى المؤسسات الدولية، لنرَ واقعنا المر من احتكارات لغذاء ودواء المصريين، وارتفاع الأسعار بشكل عجز معه قطاع واسع من المصريين عن العيش بشكل كريم بعد تعويم الجنيه، إضافة إلي البدء في بيع أصول الدولة من بوابة البورصة. والعجيب أن بنك القاهرة الذي رفض المشير محمد حسين طنطاوي بيعه في عهد مبارك خلال حكومة الدكتور أحمد نظيف، هو نفسه الذي سيتم طرح أسهمه في البورصة في عهد السيسي، وكأننا لم ننجُ من الاحتلال، وأن المقاولة والمقاول وجهان لعملة واحدة.