حمدي الجمل
اختيارُ أي نظرية من النظرياتِ الاقتصاديةِ المعمولِ بها في العالمِ يتوقفُ علي قناعةِ النظامِ السياسيِ الذي سيحكمُ بهذه النظريةُ أو تلك ولا فضلَ لنظريةِ عن أخري إلا بقدرةَ ونجاحَ القيادةِ السياسيةِ في تحقيقِ الرفاهية الاقتصادية للمواطنين، وبالتالي لا توجدُ ميزةُ للنظامِ الرأسماليِ المعمول به في أمريكاِ والدولِ الغربيةِ عن الاشتراكيةِ أو رأسماليةِ الدولةِ المعول بها في الصينِ، أو الرأسماليةِ الاجتماعيةِ المعمول بها في ألمانياِ، لكن الاقتصادَ المصريَ ليست له هويةُ فبعد أن كان نظامُا يهدفُ إلي العدالةِ الاجتماعيةِ بعد ثورة 23 يوليو تحول مع الوقتِ إلي نظامِ عبثيِ, اشتراكيِ في الرواتبِ والأجورِ ورأسماليِ في الأسعارِ والخدماتِ.
والشاهدُ أن النظامَ السياسيَ الحالي مؤمنُ بالرأسماليةِ كمنهجِ للحكمِ، وربما يصلُ الإيمانُ إلي الرأسماليةِ المتوحشةِ، لكن المدهشَ حد العجبُ أن رأسماليةَ النظامِ السياسيِ الحاليِ انتقائيةُ وليست كاملةَ، بدليلِ تحريرُ سعر صرف الجنيه أمام العملاتِ الدوليةِ، ورفعُ دعمُ الطاقةِ عن المحروقات وفقا لبرنامجِ إصلاحات اقتصادية يتطابق تماماً مع متطلبات صندوقِ النقدِ الدولي.
والسؤالُ الذي يتبادر للذهنِ هل من حقِ الشعبِ أن يعترض علي اتجاه القيادةِ السياسيةِ للنظامِ الرأسماليِ بتحريرِ سعر الصرف ورفعِ الدعم عن الكهرباءِ والخبز؟ الإجابةُ المؤكدةُ لا. ما دامت الحكومةُ تعملُ علي تحقيقِ الرفاه الاقتصادي. لكن للمواطن حقوق يجب علي الدولةِ أن ترعاها وفقا للنظامِ الرأسماليِ الذي تؤمن به حاليا، ومن أمثلة هذه الحقوقُ أن تطبق الدولةُ النظامَ الرأسماليَ كما هو معمول به عالميا ويحصل المواطنُ علي أجرهِ أو راتبهِ أسبوعيا وليس كل شهر وأن يحدد الأجر لكل ساعة عمل وليس لكل يوم عمل، وأن يتناسب هذا الأجر مع مستويات التضخمِ الموجودةِ وأسعارُ الدولارِ المرتفعة أمام الجنيه، وأن يكون التعليمُ مجانيا من الحضانةِ حتي الثانوية العامة كما هى الحال في أمريكاِ وحتي نهاية المرحلة الجامعية مثل المتبع في فرنسا. إضافة إلي حقِ المواطنِ في العلاجِ المجانيِ تحت مظلةِ تأمينيةِ شاملةِ له ولأسرته، وأن يحصل المواطن الذي لا يعمل علي إعانةِ بطالةِ، وأن يكون نظامُ الضرائبِ تصاعدياً لتحقيق العدالةِ الاجتماعيةِ بين المواطنين.
كل هذه الحقوقُ غفلت عنها الدولةُ ولم تر في الرأسماليةِ سوي ما يحقق صالحَ رجالِ الأعمالِ والمحتكرين، فرفعت سعرَ المحروقات وخفضت قيمةَ الجنيهِ مما ستكون له آثار مرعبة علي الفقراء والطبقةِ المتوسطةِ ونست الحكومةُ أو تناست حزمَ برامج الحمايةِ الاجتماعيةِ وكل ما قدمته الحكومةُ لا يزيد على كونه ذر الرماد في العيونِ وسط هائلةَ ضخمةَ من المغالطات.
ومن أبرز هذه الآثارُ تآكل مرتبات وأجورَ المصريين وانخفاض القوةُ الشرائية بفعل هذه القرارات مما سيزيد نسب الفقرِ بدخولِ الشريحةُ الدنيا من الطبقةِ المتوسطةِ إلي مستويِ خطِ الفقر، أو ما تحت خط الفقر وتأثر الشريحةُ الوسطيُ من الطبقةِ المتوسطةِ بهذه السياسيات، مما يعني أن نسبةُ الفقرِ التي كانت تدور حول 25% سترتفع إلي 50 % وهذا الأمر من شأنه تهديد السلم الاجتماعي والاقتصادي والأمني، لأن الدولَ القويةَ هي تلك التي تمتلك طبقةَ متوسطةَ تمثل الشريحةَ الأكبر من السكانِ .
ومن المغالطات التي ساقتها الحكومةُ وهي تعلن عن حزمةِ برامجِ الحمايةِ الاجتماعيةِ، أنها رفعت دعمَ الفردِ من 18 جنيها إلي 21 جنيها بزيادة 3 جنيهات تساوي قيمةَ الزيادة في سعرِ كيلو سكر واحد، أي أن الحكومةَ خفضت الدعمَ المقدم للفقراءِ ومحدودي الدخلِ بنفس نسبة تخفيض الجنيه مقابل الدولار.
كما أعلنت الحكومةُ عن رفعِ سعرُ الفائدةِ علي الودائعِ، ونست الحكومةُ أن هناك 80 مليون مصري علي الأقل لا يمتلكون حسابات بالبنوكِ، وأن من يمتلكون أموالا أو ودائع بالبنوكِ هم طبقةُ الأغنياء، وهم الذين سيستفيدون من رفع سعر الفائدة إلي 16% و20 % . ورفعت الحكومةُ سعرَ توريد القمحِ من 420 إلي 450 جنيها وسعرَ توريد الأرزِ من 2400 إلي 3000 جنيه، وهذه القيمةُ لا تساوي عشر معشار قيمة الزيادةُ في السولارِ، الذي يستخدمه الفلاحُ في ريِ الأرضِ أو في نقلِ المحاصيل أو تساوي قيمةَ تخفيض الجنيه مقابل الدولار.
وبررت الحكومةُ رفعَ سعر المحروقات بأنه في صالحِ الفقراء ومحدودي الدخل وفات الحكومةُ أن تكلفةَ النقلِ تمثل 50% أو أكثر من ثمنِ السلعةِ أي أن الحكومةَ رفعت سعرَ السلعِ علي الفقير ورفعت كلفةَ تنقله عبر وسائل الموصلات ولم تعوضه في برامجِ الحمايةِ الاجتماعيةِ .
ورغم ذلك لم تطبق الحكومةُ النظامَ الرأسمالي كاملاً من خلالِ الإعلان عن نظامِ الضرائب التصاعدية بنسب تصل إلي 50 % عند مستويِ دخل معين بل الأنكي من ذلك، مدت الإعفاءَ علي أرباحِ البورصةِ إلي 3 سنوات مقبلة.
ولم تقدم الحكومةُ رؤيتها لتفعيل الرقابة علي الأسواقِ لحمايةِ الفقراء من جشعِ التجار ومحاربةِ الاحتكار بإعداد قانونِ جديد لتشجيع المنافسةِ ومنع الممارسات الاحتكاريةِ تكون العقوبةُ فيه قاسية تصل إلي السجنِ مدة طويلة ومصادرة السلع محل الاحتكار مع تحديد هامش ربح لأية سلعة لا يزيد على 25 % فوق كلفتها.
لم تقدم الحكومةُ أي شيء يثبت أنها مؤمنةُ بمنهجِ الرأسماليةِ إيمانًا مطلقًا، وأنها تمتلك القدرةَ والأدواتَ والآلياتَ لتطبيق هذا المنهجُ, وأن قرارَ تحرير سعر الصرف ورفع دعم الطاقةِ يأتي تتويجاً لهذا الإيمان. وليس وفقاً لتوصيات صندوقِ النقدِ الدوليِ، الذي سيحاول تكرارُ تجربته مع البرازيل واليونان في مصر بالتدخل في الشئون الداخليةِ وفرض إرادته علي القرارِ السياسيِ المصريِ بغية زيادة الاحتقان الداخلي وخلق قلاقل اجتماعية تهدد استقرار المجتمع .
والسؤال هل مصر ستنجو من مصير البرازيل واليونان والأرجنتين؟